30 - 06 - 2024

وجهة نظري| صرخات الألم المكتومة فى معهد الأورام

وجهة نظري| صرخات الألم المكتومة فى معهد الأورام

لو يعلم مسئولو الحكومة وكبار القادة الذين يحكمون البلاد حجم المعاناة التى يتكبدها المرضى وذويهم الذين يترددون على معهد الاورام لما ترددوا لحظة فى التمسك بكراسيهم عجزا عن تخفيف تلك الأوجاع، ولآثروا الابتعاد تاركين مناصبهم لمن هو أجدر على مواجهة ذلك الجحيم الذى يعيش فيه هؤلاء المرضى ممن قدر لهم الوقوع بين شقى مطرقة المرض وسندان العجز والفقر وقلة الحيلة.

رحلة عذاب العلاج القاسية المرهقة تبدو كقدر يستسلم له المرضى وذووهم.. يخوضوا تفاصيل ساعاتها المرهقة بصبر العاجز اليائس المضطر الذى لايملك رفاهية الشكوى، فيستسلم مرغما لمتاهة الرحلة بيقين أن صوته أضعف من أن يجد صدى يسمعه وأنات ألمه رغم قسوتها أضعف من أن تصل لقلب رحيم يخفف عنها وانكسار روحه أوهن من أن يلمح أحد السادة إنطفاءها.

مهمشون منغلقون على أوجاعهم كملايين غيرهم ممن طواهم النسيان ولم يعد يؤرق وجودهم ضمير فى الغالب أنه لم يعد حيا.. ولا أحد يلتفت لحجم المأساة المرسومة على وجوههم، فالقلوب الرحيمة فى الغالب لم يعد لها وجود.

مجرد خيالات وأشباح وأشباه بشر تتحرك هنا وهناك، عيون مرهقة وأجساد وهنة ووجوه منطفئة ونفوس شاردة تلهث وراء سيل من الإجراءات الروتينية العقيمة.. تصعد أدوارا وتهبط أخرى .. تطرق مكاتب وتنتظر بصبر أخرى.. تنتظر فى صبر مر توقيع طبيب مختص أو ختم لورقة مطلوبة .. تتنفس الصعداء بعدما تنتهى من حفلة التعذيب لإتمام كل الخطوات المطلوبة، وإن كانت تدرك أن رحلة عذاب أخرى عليها خوضها.. ساعات من الانتظار للكشف وتحديد جرعة العلاج المطلوبة.. وساعات أخرى لصرف الدواء وساعات ثالثة فى انتظار تحضير الكيماوى المناسب للحالة وساعات رابعة لتلقى الجرعة.

لاتتوقف تلك المتاهة على الجرعة الأولى فقط، بل يخوضها كل مريض مع كل جرعة جديدة حتى تقضى نحبه أو ينتهى بروتوكول علاجه أي الأجلين أقرب!!

لا تختلف معاناة المرضى ممن يتلقون العلاج الإشعاعى كثيرا عن أؤلئك الذين يخضعون للعلاج الكيماوي، وبينما يتوهم البعض أو يأمل فى أن تنتهى جلسة العلاج الإشعاعى بسلام وسهولة ويسر بإعتبار أن الجلسة لاتزيد فى الغالب عن عشر دقائق إلا أن التجربة تخيب كل تلك الظنون، بعدما تمتد ساعات الانتظار لتصل لأكثر من ثلاث أو أربع ساعات يعانى فيها المرضى من ملل الإنتظار وترهف أسماعهم لكل اسم يتم النداء عليه، ثم تعود لتكسو ملامحهم الخيبة مستسلمين لانتظار خانق ممتد إلى اللانهائى من الألم .. يتحول أحيانا لدرجة عالية من اليأس بعدما يكتشف المرضى وجود عطل فى الجهاز، للأسف ليس طارئا لكنه يحدث دوما مما يزيد معاناة المرضى، خاصة أولئك القادمين من قرى ومدن بعيدة والمجبرين على تكرار رحلة معاناتهم الشاقة أكثر من مرة، حتى يبتسم الحظ لهم ويتم إصلاح عطل أجهزة الإشعاع المستديمة.

لا يلتفت الأطباء فى الغالب لتلك الوجوه البائسة بعدما أكسبهم الإعتياد نوعا من التبلد فى المشاعر، أو ربما تنامى بفعل الإحساس بالعجز وقلة الحيلة لمد يد العون لكل تلك الأعداد من المرضى فى آن واحد .. وإن كانت لبصمات بعضهم الإنسانية أثر طيب تستقبله الأرواح المتعبة، فيخفف قدرا من أوجاعها وآلامها ويبث فيها قدرا من أمل تكون فى أشد الاحتياج إليه.

بينما يتحرك طاقم التمريض كخلية نحل، الكل يعمل بكل ما أوتى من قوة وجهد أحيانا وبكسل ولامبالاة أحيانا أخرى، ولايحلم هؤلاء سوى بإنهاء المهمة وانتهاء ساعات العمل بأسرع وقت، أما الحلم بما تجود به الأيادى الممتدة بالمال، فلا محل له فى مخيلاتهم، فحال المرضى لايبدد فقط ذلك الأمل بل يدفع البعض من ذوى القلوب الرحيمة لمد يد العون مكتفيا "بدعوة من القلب" تفك كرب مأزوم لا يختلف حاله كثيرا عمن يداويه.

رغم قتامة الصورة تتجلى المشاعر الإنسانية بقوة لتبدد تلك العتمة .. تلمح عجوزا تتكئ على زوجها فيحتضنها بحنو بالغ، يطبطب على كتفها تستند علىه يعلو وجهه إبتسامة تتلقاها فتبث فى وجهها المتعب بهجة الحياة.

بينما يحتضن أب طفله يداعبه يهون عليه آلام الكانيولا وملل الإنتظار.. يحاول أن يصرف انتباهه عن الوجع بكل الحيل التى يستقبلها الطفل بإنبهار، فتنطلق ضحكته تخفف من وقعها ألما مكتوما يمزق قلب الأب وإن بدا متماسكا فى عيون كل من يتابعه فى صمت وإنبهار.

تسرع الأم للانتهاء من الإجراءات المطلوبة، بينما تترك إبنتها على تروللي، تبدو على درجة كبيرة من الهزال والوهن.. تلتفت بين حين وآخر باحثة عن الأم يطول الإنتظار بينما تسمع من يردد إسمها بعدما جاء دورها فى تلقى جلسة الإشعاع يتضاعف إحساسها بالعجز، وقبل أن تطلب من أحدهم المساعدة تهرع إحدى المريضات لتتولى توجيه التروللى وتصطحب زميلتها فى الألم لتتلقى العلاج بينما تتمتم شفاه كلتاهما بالدعاء بالشفاء للأخرى.

وتدهشك أخرى مستسلمة فى صمت لحالها، أو بالأدق تبدو اقرب للمغيبة عن الواقع غير منتبهة لما يدور من حولها.. تكاد تلقى برأسها على كتفها بعدما فقدت فى الغالب السيطرة والتحكم فى وضع الراس والجسد كله.. تنظر إلى لاشيء، لكن سرعان ماتعلو شبه إبتسامة وجهها كلما شعرت بيد أحد من ابنائها يربت على أكتافها أو يهم بطبع قبلة على رأسها.

يبدد الونس الإنسانى وأيادى الرحمة الممتدة لتربت على القلوب الواهنة فتوقن أو وراء كل محنة منحة يهديها الرحمن الرحيم اللطيف بعباده ليخفف بها قدرا من تلك الاوجاع ..

طبطبة السماء لاتجعلنا بالطبع نتوقف عن التفكير فى تلك الرحلة الشاقة التى يتكبدها كل مريض قاده الحظ للتردد على معهد الأورام، ونتساءل لماذا لاتتبنى الدولة خطة بناء اكثر من معهد ومستشفى لعلاج الأورام؟ لماذا لاترصد ميزانية ضخمة لتلك المستشفيات؟ ألا تستحق الملايين المعذبة تلك الخدمة؟!! أليس من واجب الدولة تقديم تلك الخدمة وعدم ترك تلك المهمة لإعلانات التسول المشكوك فى مصداقيتها ونزاهتها!! وهل يقل حق هؤلاء فى حياة كريمة أهمية عن تلك التى توليها الدولة للطرق والكبارى والمدن الجديدة؟!! أليس من الأولى الاهتمام بصحة من يعبر الطرق قبل أن نمهدها له للسير عليها!

فقه الأولويات الغائب يفرض نفسه، ليصيبنا بالإستفزاز والغضب والإدانة لسياسة نظام أطلق شعار الجمهورية الجديدة، بينما يغض الطرف عن حجم معاناة مواطنيه ممن لايزالون يعيشون فى أزمنة التردى والجهل والظلام الغابرة.
----------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | إنسانية اللا عرب





اعلان